اخبار السياسه «ذائقة الموت».. محمود الكردوسي يرصد حياة الصعيد في روايته الأولى

«ذائقة الموت».. محمود الكردوسي يرصد حياة الصعيد في روايته الأولى

«خرَّ الطائر عند قدمَى الأعرابى فى خشوع، وهو لا يكاد يدرك شيئاً مما يجرى. أحسَّ أن قوة جبارة تسحبه من سُرة روحه. كانت روحه المسكينة الضئيلة تسبقه، ووعاؤها يلاحقها كجنين يسبح فى بحر من نور. صعد الأعرابى على ظهر الطائر، فبسط جناحيه الهائلين ومرَّ على غابة الحلفا، فانحسرت عن قوسين من الأرض الخصبة.. انبسطت «الربوة» بينهما كراحة اليد. وفى القلب من الربوة ارتفع مقام ذو قبة حجرية، وشواهد من رخام أملس يتلألأ كلحم العذراوات، وحزام من ساتان أخضر كُتب عليه: (من دخل حضرتى بورك باليقين.. ثم مات على شكوكه)».

الكاتب ينتصر للحقبة الناصرية

فى روايته الأولى «ذائقة الموت» يأخذنا الكاتب محمود الكردوسى لأمكنة وأزمنة بعيدة أسطورية وواقعية، أحداث قبلية وطائفية فى قرية نائية فى قلب الصعيد، حيث تدور وقائع الرواية، قرية يختلط فيها الدين بالتقاليد بالعرف بالخرافة.

أحداثها تنطلق من زمن أسطوري مروراً بفترات تاريخية منها «ثورة 19» ونكسة «يونيو 67»

بيئة تهيمن عليها ثقافة القبلية. عبر 340 صفحة تتقصَّى الرواية، الصادرة حديثاً عن دار العين للنشر، حياة قرية «الربوة»، فتنطلق الأحداث من زمن أسطورى، مروراً بفترة تاريخية من القرن الثامن عشر، مرحلة «شيخ العرب همام»، تجاوزاً إلى زمن ثورة 1919، وبعدها إشارة إلى نكسة يونيو 1967، لتتوقف الأحداث يوم رحيل الرئيس جمال عبدالناصر.

يركز النص على ما وراء «ما جرى»، أو الطبقة الأعمق من باطن الأحداث، وربما لذلك ينطلق من نقطة النشأة (سواء نشأة القرية أو بداية الصراعات المختلفة)، وأتصور أنه لو اكتفى القارئ بتتبع سرد الحكايات المتشابكة والمتصلة، لحصد متعة آتية من جمال وجلال الكتابة، ليتوقف بين صفحة وأخرى متسائلاً: كيف تمكَّن «الكردوسى» من التقاط وابتكار وتضفير جميع هذه المشاهدات القاسية والمبهرة فى آن واحد؟!

«لم تكن هناك حياة، يقول بعض سكان الوادى: (منذ ثلاثمائة عام) ويقول آخرون: (بل منذ ثلاثمائة ألف عام)، كانت هناك ربوة ضبابية ملتهبة تسبح فى خلاء موحش، وتحيط بها غابة حلفا غارقة فى مياه آسنة، ولا يجرح سكونها سوى خليط من أصوات غامضة مخيفة. وتبدو النجوم فى ظلمتها الحالكة أسراباً من الأرواح الشريرة يلاحق بعضها بعضاً».

من زاوية عين الطائر المحلق، يستهل المؤلف نصه، موحياً بفكرة «التجلى» والرهبة، ليوهمنا بأن الصوت (تنزيل) قادم من جهة فوقية، وبأن ما هو آتٍ ما هو إلا نص مقدس، أو سِفْر من أسفار الأنبياء، يوجب على المتلقى التزام الصمت من باب الأدب، فيتحدث الراوى العليم بعبارات شديدة الكثافة عن نشوء القرية «الربوة»، فنشعر كأنه يشرح إحدى نظريات نشأة الكون من السديم أو العدم، أو أنه يحكى علينا واحدة من أساطير قصة الخلق، وكأن المكان موجود منذ الأزل، وأن كل ما كان قبل هذه البلدة الصغيرة ما كان، أو كأن قدسية القول ستُضفى بركة أو لعنة على هذا المكان. فهل يكون أحد أسباب الانطلاق من هذه البداية البارقة هو بُعد المؤلف مكانياً عن الصعيد، أم حالة من حالات الرفض لهذا الإرث من القسوة؟!

العلاقة بين المسلمين والأقباط على رأس القضايا المطروحة فى العمل، تناقشها الرواية من الصفحات الأولى بلا تزييف ولا مواربة، فتقدم صوراً شتى لهذه العلاقات المتفاوتة بين الصداقة والتقدير حيناً والاضطهاد أحياناً، فنجد مثلاً العمدة «عبدالجواد الدكر» يقيم مراسم جنازة لرفيقه القبطى المقدس بخواجى، وفى دار المناسبات الخاصة بالعائلة، وهو تقدير خاص:

«تحامل على نفسه -يقصد العمدة- وبدافع من الشعور بالحب والذنب، قرر فى سابقة هى الأولى من نوعها فى الربوة، أن ينصب لـبخواجى جنازة فى مندرة بيت الدكر -أى فى دار المناسبات الخاصة بالعائلة- وأن يتلقى فيه العزاء كأى مسلم».

كما تحفل الرواية أيضاً بصور أخرى من العلاقة بين المسلمين والأقباط، منها الشراكة فى المشروعات الاقتصادية (وابور الطحين مثلاً). وفى هذه القرية -فضاء الأحداث- نجد شخصيات مسيحية من الأعيان لها وضعها الاجتماعى المرموق، بينما للكادحين النصيب الأكبر من القهر، كفقراء المسلمين تماماً.

شخصيات الرواية مرسومة بعناية، على المستوى الشكلى والنفسى، بما فيها الشخصيات الثانوية التى نالت حقها أيضاً من الاهتمام، حتى إننا نشعر أن هذه الشخصيات حية أمام أعيننا بصحتها وبمرضها وقوتها وعللها النفسية: «بيضاء كاللبن الحليب تشوبها حمرة، وجهها عربى يكاد يكون مربعاً. كفَّاها صغيران كعصفورين أليفين، وذراعها كالكعك النى، وعلى جانبَى فمها نغزتان تضاعفان من سحر ابتسامتها. فارعة، ثابتة كالفرس عندما تقف، لكنها تتخلَّع فى مشيتها كالناقة».. حين يتحدث عن «عسكرية» زوجة «همام» وإحدى البطلات الرئيسية فى الرواية.

«عبدالله» الشخصية الأكثر إيجابية فى النص، بل يكاد يكون هو الشخصية الأكثر براءة، والتى تتسم بنزعة صوفية رغم صغر سنه، وهى كذلك تستدعى شخص المسيح عليه السلام، إذ يولد من أمه المسيحية «ميسم»، وكأنها المقابلة لمريم، وأب غير مؤكد إن كان «همام» أم روحاً نورانية، فتظهر على الصبى علامات النبوغ فى سنىِّ عمره الأولى، متفوقاً على أقرانه فى مراحل تعليمه فى المدرسة، حتى إنه حين يُتهم فى جريمة، يُخفَى عن الأنظار، بما يشبه فكرة المعجزة، ويُقدَّم للمحاكمة المجرم الحقيقى، إذ يُشبَّه عليهم عبدالطاهر بدلاً من عبدالله. وهو ما يستدعى فكرة صلب شبيه عيسى بدلاً من المسيح الحقيقى فى العقيدة الإسلامية. ويعود للظهور يوم موت الزعيم، وكأن الموت بعث أو قيامة، لنفهم أن الموت لحظات انكشاف «عبدالله» وتجلى «الحلفاوى»، حدث مستحق للاحتفاء به.

تعود جذور الاختلاف أو الخلاف بين الطائفتين إلى التنازع حول صورة الحلفاوى صاحب المقام: «ثم تراجع اهتمامهم بأمر المقام، وبدأ كل منهم يرسم لـ(الحلفاوى) نفسه صورة يعتقد أنها جامعة لصفته، تعددت الصور، وبعضها كان يهبط به أحياناً إلى درك الحيوانات نازعاً عنه كل قداسة وتأثير». والحلفاوى أحد الرموز الغامضة والموازية فى حضورها للأبطال، بل والمفسرة للأحداث، لكنه رمز مختلف عليه: «الأقباط يقولون: إن الحلفاوى هو جدهم الأعلى (بولص)»، «والمسلمون يقولون أيضاً: إن الحلفاوى جدهم الأكبر (سلمان)»، «وهكذا عاش أهل الربوة قرناً ونصف القرن من الزمان تقريباً وهم لا يعرفون إن كان الحلفاوى وهماً أم حقيقة. هل هو بولص بن منقريوص، أم سلمان بن عامر. أم ثالثهما؟ وهل يستحق أن يكون له مقام تطوف حوله الأرواح؟». لكن هذا الاختلاف حول هيئة وحقيقة وجوده لا يمنع أهل القرية من القسَم به، واللجوء إليه شاهداً ومعيناً على كافة تعاملاتهم، بل وملاذاً للفارين والخطائين والمستضعفين منهم على طول الخط، إلا أن المؤلف يقدم تجلياً خاطفاً للحلفاوى، وكأن المؤلف ينتصر لـحقيقة «وجوده»، فى يوم رحيل الأستاذ عبدالرحمن، وهو اليوم نفسه الذى يرحل فيه الزعيم جمال عبدالناصر، إذ يتجلى الحلفاوى على الجنازة: «ومن بعيد، من غرفته المعتمة فى قلب المقام، أطلَّ الحلفاوى على الموكب: (هذا ليس بلداً بل مماتة)!»، ص 341.

الثأر واحد من الموضوعات المحركة للأحداث أيضاً، ومنذ بداية النص: «سقطت الربوة فى فوضى. خُربت بيوت، وأُحرقت أراضٍ، وتدحرجت رؤوس على مطالع القرية ومنحدراتها»، ص 23.

أسباب القتل ترتبط بمفهوم الشرف، أو لأسباب أقل شأناً، لكنه قتل بشع فى أغلبه، إذا يتطرف الناس فى كرههم كما يتطرفون فى محبتهم وانحيازاتهم إن وُجدت.

والمرأة والرغبة والجنس تخلق أحداثاً متشابكة، بل قد تكون سبباً مباشراً لجرائم الثأر فى الرواية.

ونماذج النساء المقدمة، القليل منها يتميز بسطوة، مثل «عسكرية» زوجة شيخ البلد، وسطوتها مستمدة من كونها ابنة أحد الأعيان وزوجة شيخ البلد، كما أنها تستمد سطوتها من جمالها وإنجابها للذكور (وهى مؤهلات النساء فى الصعيد)، «فريدة» أيضاً نموذج للمرأة المتورطة فى العلاقة غير الشرعية بعد رحيل زوجها مع «عبدالواسع»، ولأنها ابنة العمدة فعقابها الحرمان من الميراث، بينما يُقتل «عبدالواسع» شر قتلة.

حانز نموذج للفتاة التى تُقتل حين يتم اغتصابها، كونها الأقل شأناً (طبقاً للوضع الاجتماعى المتوسط)، تُقتل بدم بارد بحجة غسل عارها! وبعلم أمها ونساء أسرتها.

بينما «مثوى» يلاحقها عار آخر «كونها بنت حرام»! لكن دون عقاب «من الطبقة الأدنى»، وهو ما يؤكد عنصرية هذا المجتمع فى تعامله مع المرأة والأقليات.

الرواية تدين عادات الثأر والتمييز ضد المرأة

ترصد الرواية أيضاً ما تتعرض له المرأة من قهر الزوج وقهر الأبناء، والحرمان من الميراث، حتى إنها تتعرض للموت فى عملية «الختان» أو الوأد لمجرد أنها أنثى!

موت الزعيم جمال عبدالناصر 1970 وجنازته هى لحظة التنوير والنقطة الأعلى التى تقف عندها أحداث الرواية، فتأتى خاتمة لحالات الموت الصغير وبروفات القتل المبرر وغير المبرر، إذ تتوقف عند هذا الحدث أزمنة وطموحات وسير حياة هذه البلدة، ليصير ما قبلها مجرد أحداث عابرة، فتطغى مشاهد الجنازة المتوحدة مع جنازة أحد أبرز أبطال الرواية «الأستاذ عبدالرحمن» مُعلم التلاميذ:

«ما أكثر الرجال الذين قدمتهم الربوة قرابين للموت، لكنها لم تبكِ رجلاً من قبل مثلما بكت الأستاذ عبدالرحمن. ما من عائلة، غنية أو فقيرة، إلا وشاركت فى الجنازة، ما من قرية أو نجع أو نزلة فى الزمام، إلا وأرسلت وفداً لتقديم العزاء».

الموت الكبير الذى يحدث يوم موت الزعيم لا يخلف حالة الحزن المتعارف عليها، لكنه قيامة وبعث، إذ هو لحظة الانكشاف والتجلى، فيظهر «عبدالله» الشخصية المشابهة لفكرة المسيح، ويتجلى «الحلفاوى» فى هذا اليوم:

«الدكاكين أغلقت أبوابها: لا بيع اليوم ولا شراء، البيوت أطفأت نورها ونارها، أطفأت قناديلها وكوانينها وأفرانها، لا حكايات ولا مكائد، لا خبيز ولا طبيخ، لا شهوات ولا ألعاب صغيرة، الفلاحون حبسوا ماشيتهم وعلقوا فئوسهم ومقاطفهم على جدران الحظائر والزرايب، الصبية توقفوا عن اللعب، واختبأ الأطفال فى أحضان أمهاتهم، النساء اتشحن بالسواد ووقفن على أسطح البيوت وعتباتها يولولن ويُهلن التراب على رؤوسهن».

ومع أن المؤلف أوهمنا فى البداية بأنه بعيد تماماً عن الأحداث، إذ يتحدث إلينا من علٍ، إلا أنه، وعبر فصول ولغة النص، نشعر به حاضراً بقوة، متخذاً وضعية الجلوس على مصطبة أو دكة فى إحدى ساحات القرية. وفى الخاتمة نشعر أن المؤلف ما كان محايداً على الإطلاق، بل متورط بشكل أو بآخر فيما كتبه عن هذا المجتمع وشخوصه، ليقدم لنا مساءلة للحياة والنفس البشرية بـ«فجورها وتقواها»، وعلاقة الإنسان بالآخر وبالإله وإيمانه بالغيب وموقفه من الموت، ليشعر القارئ بذائقة النص على نفسه، حتى بعد الانتهاء من قراءة «ذائقة الموت» ليسأل نفسه: هل انتهيت من قراءة النص أم لا؟!

«ذائقة الموت» رواية خصبة على كافة المستويات، فيها مساءلة لأحداث الحياة، من سطوة وترف وثقافة وسياسة، وعلاقات إنسانية معقدة، جاءت مقاطعها ثرية بالصور الحية، ولغتها ملحمية ومختارة بعناية فائقة، بعيدة عن ميوعة الحياد، يظهر فيها بوضوح تأثر المؤلف بلغة القرآن الكريم، وباللغة الصوفية. العمل يستحق القراءة المتأنية والعميقة، إذ إنه نص لا يكشف عن نفسه من القراءة الأولى.

جميع الحقوق محفوظة لمصدر الخبر الوطن وتحت مسؤليتة ونرجوا متابعتنا بأستمرار لمعرفة أخر الأخبار علي مدار الساعة مع تحيات موقع موجز نيوز الأخباري

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

التالى اخبار السياسه الساعة كام الآن؟.. تقديم الساعات 60 دقيقة مع تطبيق التوقيت الصيفي