اخبار السياسه الهندسة السياسية.. عِلم بناء الدول

(1)

فى القرن التاسع عشر تحدّث البعض عن وظيفة «المهندس الاجتماعى».. فإذا كان «المهندسون» يتعاملون مع مشاكل المادة.. فإن «المهندسين الاجتماعيين» يتعاملون مع مشاكل الإنسان.

وفى القرن العشرين، تردّد مصطلح «الهندسة الاجتماعية».. وهى برأى البعض.. تهدِف إلى التأثير على موقف الشعب وسلوك المجتمع. وقد طوّر البعض المصطلح ليذهب إلى.. خطط اختراق العقول البشرية وتوجيهها.. حيث لا يكفى اختراق الأجهزة.. دون اختراق العقول.

وفى أثناء تشكيل ما سُمّى بـ«النظام العالمى الجديد» عقب انهيار الاتحاد السوفيتى ونهاية الحرب الباردة.. تحدّث البعض عن «الهندسة السياسية».. ثم تحدّث آخرون عن «الهندسة الديمقراطية».

(2)

لستُ واحداً ممن يوافقون على التعريف المتداول لمصطلح الهندسة السياسية.. وحيث إن العلوم الاجتماعية تحتمل باستمرار العديد من التعريفات.. المتقاربة أحياناً والمتباعدة أحياناً أخرى.. فإننى أذهب إلى وضع تعريف جديد لمصطلح «الهندسة السياسية».

تشير التعريفات القائمة إلى «سيادة نموذج سياسى واحد يعتمد على حقوق الإنسان والديمقراطية.. ومن أجل ذلك يجب إعادة النظر فى مفهوم السيادة».. «حيث تتراجع الدولة وسيادتها لصالح النموذج الديمقراطى العالمى.. وهنا لا يجوز لكل دولة أن تختار نموذجها فى الحكم.. فهذا هو النموذج العالمى الوحيد للحكم».. و«فى هذا الإطار.. يجب على الغرب.. استخدام القوة العسكرية لإعادة تشكيل أنظمة الحكم فى العالم بما يتماشى مع تصورات الهندسة السياسية».

لقد نشأت على أثر ذلك مصطلحات مساعدة.. مثل «الهندسة الديمقراطية».. وهى تعنى بتقديم الاستشارات للتحوّل الديمقراطى.. ويقول أصحابها فى ترويجها: «عندما تود عائلة أن تبنى منزلاً جديداً.. فإنها تقوم باستشارة مهندس معمارى.. وحين يرغب أحد فى تحسين نظامه الديمقراطى عليه أن يتصل قبل أى شىء بمستشار فى الديمقراطية.. إنه «المهندس الديمقراطى».. الذى يقدّم أفضل مشورة.. وأقل مخاطر».

(3)

للأسف.. فقد سادت هذه المفاهيم للهندسة السياسية.. وجرى حصارها فى عملية التحول الديمقراطى وحقوق الإنسان.. دون التطرق إلى ما ينبغى أن يشير إليه المصطلح بالضرورة.. وهى هندسة السياسة الداخلية والخارجية للدولة بما ينقلها من وضع «عدم التقدم» إلى مصاف الدول المتقدمة.

ومن المؤسف أن معهد الدراسات السياسية فى جامعة «إيكس إن بروفانس».. يمنح درجة الماجيستير فى «الهندسة السياسية». طبقاً للمفهوم السائد.. الذى يتعلق بصياغة عالمية لنظام حكم ديمقراطى.. عبْر وضع هياكل للدستور والقانون والانتخابات.. أو ما يسمى بـ«الهندسة الدستورية» و«الهندسة القانونية» و«الهندسة الانتخابية».

(4)

تذهب هذه السطور إلى بلورة تعريف آخر.. وسياق فكرى آخر لـ«الهندسة السياسية» بالتعريف الفرنسى هى مجرد نصوص فى حقوق الإنسان وقوانين الانتخابات. وهى أمورٌ لها مكانها فى دراسات حقوق الإنسان ودراسات نظم الحكم.. ولا تحتاج إلى مصطلح جديد.. ذلك أن مصطلح «الديمقراطية» أو «التحول الديمقراطى» هو الأنسب لوصف الهندسات الدستورية والقانونية والانتخابية.. وحتى ما يخصّ نزع سيادة دولة مّا وفرض نموذج لنظام الحكم عليها.. فهو يدخل فى إطار «الصراع الدولى» ضمن حقل «العلاقات الدولية».. ولا يحتاج إلى مصطلح «الهندسة السياسية» فى شىء.

(5)

التعريف الذى أَراهُ للهندسة السياسية.. هو «علم بناء الدولة».. أى «علم إدارة شئون الدولة.. عبْر تخطيط شامل للسلطة والمجتمع.. وبناء أو إعادة بناء المؤسسات العامة والخاصة.. بما يؤدى إلى انتقال الدولة من التخلف إلى التقدم.. أو من التقدم إلى التقدم الأعلى مع وضع آليات استدامة عملية التقدّم».

إن الهندسة السياسية ببساطة.. هى عِلم النهضة، أو عِلم التقدم.

(6)

لقد قدّمت «سنغافورة».. نموذجاً للهندسة السياسية فى عهد الزعيم «لى كوان يو».. الذى بدأ بـ«الهندسة الجغرافية».. شملت «ردم البحر» لتوسيع مساحة الدولة الصغيرة.. ثم تأسيس «مجلس التنمية الاقتصادى» الذى أسّس تعليماً عالمياً، ورسم السياسات وجذب الاستثمار.

إن الثنائية الهندسية التى نهضت بها سنغافورة هى ما لخّصهُ «لى هسين لونغ» رئيس وزراء سنغافورة بقولِه.. إن نهضة بلاده قامت على: «قيادة قادرة على الإبداع.. ونظام ترقيات منضبط وحازم.. حيث الرجل المناسب فى المكان المناسب.. تماماً».

لقد بدأت «سنغافورة» كدولة مطرودة من الاتحاد الماليزى.. ونجحت الهندسة السياسية فى نقلها من «نموذج الدولة المطرودة» إلى «نموذج الدولة الناجحة».. إن عنوان كتاب «لى كوان يو».. «من العالم الثالث إلى الأول.. قصة سنغافورة».. يشرح بالضبط معنى الهندسة السياسية.

(7)

إن كوريا الجنوبية هى الأخرى.. التى خرجت من «احتلال يابانى» استمر (36) سنة.. ثم دخلتْ حرباً إقليمية كبرى هى جزءٌ من «حرب عالمية محدودة».. قطعت مسيرة الفقر والدم مع الجنرال «بارك تشونغ هى» عام 1961، والذى أسّس «مجلس التخطيط الاقتصادى».. وأسّس تعليماً عالمياً.. لتنتقِل كوريا الجنوبية من وضع «اللاتعليم» إلى «التعليم العالمى».. بحيث أصبح عددٌ من جامعاتِها من بين أفضل (100) جامعة فى العالم.. ومن وضع «الفوضى» إلى المركز الرابع فى طلب براءات الاختراع على مستوى العالم.

لقد نقلت «الهندسة السياسية» كوريا الجنوبية من متوسط دخل للفرد (80) دولاراً سنوياً إلى (30) ألف دولار سنوياً.. ومن وضع «الدولة الفاشلة» إلى وضع «الدولة الباهرة».

(8)

إن ماليزيا هى نموذج آخر فى قوة «الهندسة السياسية».. نجح الدكتور مهاتير محمد فى الانتقال بماليزيا من مستوى اقتصادى كان يعادل هاييتى وهندوراس وأقل من غانا حين الاستقلال عام 1957.. إلى أن تكون ماليزيا هى «اليابان الجديدة».

نظر مهاتير إلى جهة الشرق.. حيث اليابان وكوريا الجنوبية.. ورفع شعار «ماليزيا يمكنها فعل ذلك».. وخطت ماليزيا من حالٍ إلى حال.. يقول مهاتير فى مذكراته: «كان بناء فندق يحتاج إلى (200) موافقة منفصلة.. والآن أصبح بناء منزل فى ماليزيا أسرع منه فى إنجلترا».

(9)

لقد جاءت التجربة الصينية نموذجاً باهراً آخر فى «الهندسة السياسية».. لم تقم الصين بالإصلاح الجزئى.. بل وضعت رؤية للإصلاح الشامل.. ويمتدح باحثون تجربة الصين فى أنها نجحت فى تحقيق الإصلاح الكبير بدون عدد كبير من الخاسرين الذين كان يمكنهم عرقلة الإصلاح.. كما أن الصين قامت بالإبداع الفكرى إزاء عدد من القضايا.. ولم تقم بالوصفات الشائعة.

ويذكر «ويليام أوفر هولت» فى دراسة «الصين والعولمة»: إن الصين أرسلت البعثات.. لتأخذ العلم والإدارة معاً.. فأخذت معايير المحاسبة الدولية وقوانين الأوراق المالية من الولايات المتحدة وبريطانيا، وأخذت النظم العسكرية من فرنسا.. واستعانت باستراتيجية التنمية من كوريا الجنوبية وسنغافورة، وقامت بهيكلة البنك المركزى الصينى على غرار هيكل بنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى.. وأخذت من الاقتصاد الغربى مبدأ التنافسية وسيادة القانون.. ثم إنها أضافت -فوق هذا كله- إبداعاً خاصاً فى الاستغلال الأمثل للسكان.. فنجحت فى تفادى البطالة الضخمة وحافظت على الاستقرار الاجتماعى.

(10)

إن تجارب سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية والصين.. هى نماذج فى علم بناء الدول.. والانتقال بها من مصاف «الدولة التائهة» إلى مصاف «الدولة المتقدمة».. هنا تكمن فلسفة «الهندسة السياسية».. ومهارات «المهندسين السياسيين».

حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر

جميع الحقوق محفوظة لمصدر الخبر الوطن وتحت مسؤليتة ونرجوا متابعتنا بأستمرار لمعرفة أخر الأخبار علي مدار الساعة مع تحيات موقع موجز نيوز الأخباري

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق اخبار السياسه هيئة الكتاب تشارك بإصدارات متنوعة في معرض الدوحة الـ33
التالى اخبار السياسه أحمد العوضي: ياسمين عبد العزيز حبي الوحيد.. وعودتي لها أمر خاص جدا