اخبار السياسه «خريف السلطان»: وما ذنب البقلاوة؟

مثل فيل هائج ومغرور يعدو فى متجر خزف، يبدو الرئيس التركى أردوغان حالياً، وهو فى عدوه الأهوج وتخبطه الجائر، يحطم الكثير من الأصول النفيسة.

يستند «السلطان أردوغان»، كما يحلو لنقاده تسميته، إلى قاعدة جماهيرية صلبة، خصوصاً فى أعماق البلاد، كما تتعزز حظوظه التنافسية دائماً بإنجازات اقتصادية وخدمية وتنموية مبهرة تحققت فى سنوات حكمه، التى امتدت من 2003 إلى 2014 كرئيس للوزراء.

فى تلك السنوات استطاع هذا الرجل أن ينقل تركيا من وضع بائس ومتدهور إلى مكانة رفيعة، عبر خطط تنمية وتحفيز اقتصادى ناجحة وفعالة.

وعندما كان بصدد إنهاء ولايته الثالثة والأخيرة كرئيس للوزراء، كانت بلاده واحدة من الدول العشرين الأقوى اقتصاداً فى العالم، متمتعة بنمو اقتصادى مطرد ومستقر، وبقدرات سياسية وعسكرية مزدهرة.

لم يتقبل أردوغان حينئذ فكرة أن يترك موقعه، ويسلم «الراية الخفاقة» لأحد زملائه فى الحزب الحاكم، ويترك التاريخ يتحدث عن منجزه، ولا حتى قنع بالحصول على منصب رئيس الجمهورية الشرفى، والعمل لفترة أو فترتين رئاسيتين على رأس الدولة ورمزاً لها، دون أن تكون له أدوار تنفيذية؛ إذ يبدو أن هوس السلطة قد سلبه ميزة التفكير المستقيم والمنطقى.

لقد خاض الانتخابات الرئاسية فى 2014 بالفعل، ولم يجد أى منافس يمكن أن يهدد حظوظه، وبات رئيساً للبلاد، خلفاً لزميله فى حزب العدالة والتنمية وحليفه القديم «عبدالله غول».

لم يرضَ أردوغان بالصلاحيات الشرفية التى يمنحها له منصبه الرئاسى، وفق الدستور، ولم يلعب الأدوار نفسها التى لعبها بإتقان واستقامة خلفه «غول»، وراح يتغول على الصلاحيات التنفيذية التى يحق فقط لرئيس الوزراء أن يتمتع بها.

أتى أردوغان بتابعه «أحمد داود أوغلو»، الذى كان وزيراً للخارجية فى حكوماته السابقة، وعينه رئيساً للوزراء، لكن هذا الأخير ما لبث أن أدرك أنه تحول إلى مجرد صورة، وأن صلاحياته الواسعة كحاكم فعلى للبلاد تتقلص، ليصبح بمنزلة «سكرتير السلطان».

استقال «أوغلو» من منصبه، لكن هذه الاستقالة لم تجعل رموش السلطان ترف، بل مضى سريعاً إلى تعيين «بن على يلدريم» فى المنصب الشاغر؛ وهذا الأخير نفسه أتقن ببراعة لعب الدور المرسوم له، فبدا كما لو أنه حريص على دور «الحاجب».. «حاجب السلطان أردوغان»، وليس حتى «وزيره» أو «حامل أختامه».

فى غضون ذلك، راحت إشارات العظمة السلطانية تتزايد، ليس فقط فى لغة الخطاب، ولا الحرص على مظاهر «الأبهة السلطانية»، ولكن أيضاً فى قرارات وسياسات اعتبرها النقاد بمنزلة إعادة إنتاج لأوضاع «تركيا العثمانية».

لقد حال بقاء أردوغان الطويل فى السلطة، وملامح شخصيته الفخورة، وهوسه الظاهر بالعرش، دون صيانة مُنجزه السياسى على النحو الأمثل، وربما لن تُمكّنه تلك العوامل أيضاً من الحصول على ختام كريم لحياته كزعيم ورجل دولة.

يشرح الأكاديمى التركى «ألتر نوران»، الأستاذ بجامعة بيلجى، بإسطنبول، التغيرات التى طرأت على شخصية أردوغان على مدى سنوات حكمه فى كلمات قليلة لكنها موحية؛ إذ يقول: «لقد تحول من البراجماتية إلى الأيديولوجية، ومن العمل الجماعى إلى القرارات الشخصية، ومن الديمقراطية إلى الاستبداد».

لتلك الأسباب نفسها، بات الكثيرون يتوقعون ردة فعل قوية بحق سياسات أردوغان المتعالية، ورغبته الواضحة فى نقض الأساس الذى بنيت عليه تركيا الحديثة، عبر تصفية «الأتاتوركية» لمصلحة النزعة السلطانية المستندة إلى إحياء الأيديولوجية الدينية.

لقد أتت ردة الفعل فى 15 يوليو الفائت، حين وقعت المحاولة الانقلابية الفاشلة، وهى المحاولة التى بدا أن عدداً من الضباط غير البارزين تورطوا فيها، وسرعان ما أخفقت، وتمت السيطرة على الأوضاع، دون أى تغيير جوهرى.

لكن أردوغان اتخذ تلك المحاولة مطية لكى يُفعّل سياسة تطهير سياسى غير مسبوقة فى العقود الخمسة الماضية، التى شهدت أربعة انقلابات عسكرية ناجحة فى هذا البلد.

وأصبحنا جميعاً نعرف أن هذا الرجل، استغل تلك المحاولة الانقلابية لتصفية أعدائه وخصومه ومنافسيه، وحتى هؤلاء الذين لم يصطفوا فى تأييده أو يهتفوا له بهمة، وهو الأمر الذى عزز نظرية «المؤامرة»، وانعكس فى تحليلات وتصريحات اعتبرت أن «الانقلاب الفاشل لم يكن سوى تدبير أردوغانى للحصول على غطاء لقرارات صعبة يريد اتخاذها لتوطيد سلطانه».

لا توجد معلومات تحسم تلك الاتهامات التى تم توجيهها لأردوغان فى هذا الشأن، لكن من حق المتابع والمحلل أن يستغرب من العدد الهائل لقرارات الاعتقال والطرد من الخدمة التى تلت تلك المحاولة الانقلابية، وقبل مرور ساعات على إحباطها، وكأنما الكشوف كانت معدة، والقوات متأهبة للتنفيذ.

ثمة 40 ألف معتقل، ومائة ألف مطرود من الخدمة بالجيش والشرطة والقضاء والتعليم، ومائة صحفى مسجون، فضلاً عن مئات المدارس والمنظمات الأهلية، و45 جريدة، و16 محطة تليفزيون، وثلاث وكالات أنباء، و15 مجلة، و23 إذاعة، و29 دار نشر تم إغلاقها.

ليست هذه أخطر تداعيات المحاولة الانقلابية؛ ولكن تحول الدولة إلى «جمهورية خوف»، وتجييش كافة منابرها لـ«الهتاف والدعاء» للسلطان، بات خطراً أكبر من أى اعتبار.

يقول «كمال كيليجدار»، أحد كبار معارضى أردوغان، والذى سانده خلال المحاولة الانقلابية، رافضاً تغيير نظام الحكم بالقوة: «بعد كل هذه القرارات الانتقامية والاحترازية الطائشة، لم يعد ممكناً القول إننا نعيش فى نظام ديمقراطى».

لم يتوقف أردوغان حتى هذه اللحظة عن تصفية أى منبر أو حالة أو إمكانية يمكن أن تعارض سياساته، باستخدام القوة الباطشة، وآخر إبداعاته فى هذا المجال حدثت عندما اعتقل أخيراً كاتباً مرموقاً هو «محمد ألتان»، بتهمة «توقع وقوع الانقلاب فى مقابلة تليفزيونية قبل حصوله بيوم».

ليست هذه أسوأ الأنباء الآتية من تركيا، فقد تمت إقالة أعضاء 28 مجلساً بلدياً منتخباً، وتعيين آخرين من أنصار أردوغان بدلاً منهم، وهو الأمر الذى يضرب الأساس الديمقراطى للحكم المحلى فى البلاد.

كما أعلنت السلطات، هذا الشهر، عن اعتقال صاحب أكبر معامل صناعة البقلاوة التركية الشهيرة «غوللى أوغلو»، بتهمة الانضمام لجماعة «خدمة» التى يقودها الخصم اللدود لأردوغان، عالم الدين الشهير «فتح الله غولن»، ضمن 15 رجل أعمال بارزاً آخرين.

ليست تلك حملة أردوغانية على البقلاوة بطبيعة الحال، ولكنها محاولة لتصفية القدرات الاقتصادية التى يتصور أردوغان أنها تسند عدوه «غولن».

تتمتع البقلاوة التركية بمكانة فريدة على مستوى العالم، لكن عادات تناولها تتضمن تناول حبات الفستق معها، وشرب الشاى الثقيل الشهير أيضاً فى ذات الوقت، حيث يكسر الفستق والشاى حدة الدسم فى البقلاوة، بما يعزز القدرة على الأكل والاستمتاع.

«بقلاوة السلطان» وحدها ستفسد الوجبة، لأن صوتاً واحداً، وطعاماً واحداً، وسلطاناً واحداً، كلها علامات من أزمنة مضت.. ويصعب جداً أن تعود.

إما أن يعود أردوغان إلى الأسس التى انتُخب على أساسها، أو يمضى فى خريفه، غير مأسوف عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمصدر الخبر الوطن وتحت مسؤليتة ونرجوا متابعتنا بأستمرار لمعرفة أخر الأخبار علي مدار الساعة مع تحيات موقع موجز نيوز الأخباري

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

التالى اخبار السياسه الساعة كام الآن؟.. تقديم الساعات 60 دقيقة مع تطبيق التوقيت الصيفي