هكذا كشفت السترات الصفراء «عورات» الرأسمالية

هكذا كشفت السترات الصفراء «عورات» الرأسمالية
هكذا كشفت السترات الصفراء «عورات» الرأسمالية

[real_title] بعد النجاح النسبي الذي حققته مظاهرات «السترات الصفراء» في فرنسا، وموافقة الرئيس إيمانويل ماكرون على بعض مطالب المتظاهرين، ورفعه الحد الأدنى للمرتبات 100 يورو، ووقف الضرائب على من هم أقل من 2000 يورو، أصبحت السترات الصفراء «شعارا» في كثير من الدول الأخرى ممن يطالبون بحياة أفضل، بل أصبحت في حد ذاتها «ثورة» ضد الرأسمالية فهل تنجح بالفعل في القضاء عليها؟.

 

والسترات الصفراء.. هي إشارة رمزية للكادحين وطبقة العمال والمهمشين في المناطق الريفية ونظيرتها من المناطق الصناعية التي عفا عليها الزمن واندثرت الصناعة بها.. وليس موظفي الحكومة.

 

ثورة الربيع الفرنسي الذي انتقلت عدواه لأوروبا لتظل القارة العجوز صاحبة إرث إنساني مميز تنقله للعالم، تجاوزا لـ"مراهقة" العالم الجديد في أمريكا، وإنكفاء آسيا ذات الطبيعة والتقاليد شديدة الخصوصية، وضعف إفريقيا التي عانت وتعاني الفقر والعوز بسبب الفعل الاستعماري الأوروبي ذاته.

 

السترات الصفراء باتت كاشفة لـ"سوأة" الحضارة الغربية وخصوصية رأسماليتها التي كافحت بشتى السبل لتصدير نموذجها شرقا وغربا، نعم "لا ستر" بعد اليوم بعدما طفح الكيل وفاض من انعدام المساواة، والتوسع الضخم للفجوة بين "أثرياء الرأسمالية" وفقرائها.

 

ربما أوقع الحظ العاثر "ماكرون" في طريق الخلاص من "الظلم الاجتماعي" ليكون رئيسا لفرنسا في هذا التوقيت ليكشف علنا لشعبه عن رفع الحد الأدنى للاجور مئة يورو، وهو ليس إنجازًا بقدر ما هو وعد انتخابي تأخر وقت الوفاء به، وليس منّة أن تعقى الشريحة الأكبر من أصحاب المعاشات من الضرائب (في حدود 70%) بل بعض العدل ولو مؤقتًا.

 

ويبقى اللغز الذي لا يستهان به في ضرائب الوقود، حيث تظل كبيرة مقارنة بمتوسط دول مجموعة التعاون الاقتصادي والتنمية "أوسيد" ، فيما باتت عبئا ثقيلا فوق الأعباء التي ينوء بها كاهل المواطن الفرنسي (بلغت ضريبة الوقود في فرنسا العام الماضي 60.9% من إجمالي سعره بالمقارنة مع متوسط دول "OCED" التي تضم أكثر من ثلاثين دول من العالم المتقدم شرقا وغربا عند 51.3%).

 

لكن رغم ذلك فإن "ماكرون" الذي يحاول تقديم "حلا سحريا" أمامه تحد آخر كبير يتمثل في زيادة عجز الميزانية بعد هذا الرفع للحد الأدنى للأجور وتجاوز الحد الحرج الذي أقرته "بروكسل" لعجز الميزانية عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي، بجانب تحرك تل الديون لما بعد 100% بالمقارنة مع 60% حسب شروط الاتحاد الأوروبي.

 

يذكر أن حجم الاقتصاد الفرنسي يناهز 2.5 تريليون دولار فيما تزحف ديونه الإجمالية قرب مئة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي "97% حسب أرقام 2017.

 

والآن بات ماكرون أمام خيارين، إما الحلم الأوروبي بكل آلام مخاضه وعثراته؟ أو الأمة الفرنسية وتطلعاتها ورغبتها في حياة أفضل وأكثر "عدلا"؟، فهل سيظل على رغبته في رفع "كف أذى الضرائب" عن الأغنياء لدعم الاستثمار كما يرغب أم "التحرك النرجسي" نحو إرضاء "مراهقي" السترات الصفراء بعيون نظرية المؤامرة على عاصمة النور؟

 

يكشف الماضي القريب أن فرنسا لم تكن "مثالية" إطلاقا في التعامل مع "الفئوية" البغيضة التي تعمقها الرأسمالية، وربما بانت الثورة الفرنسية "حربا شعواء" على الدكتاتورية إطلاقا لكوامن طاقات عظيمة في النزعات التحررية لتقود أمتها نحو عالم أفضل.

 

بالفعل لم تكن فرنسا رائدة هنا، وفي التاريخ الحديث، وإلا لماذا تأخرت دون غيرها في فرض ضرائب الدخل حتى عام 1914 كما يقول "توماس بيكتي" في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، لنصل في نهاية المطاف إلى نتيجة حتمية ومأساوية وهي أن العائد أو المردود الذي جناه رأس المال الذي فتح له الباب على مصراعيه كان أكبر بمراحل من الارتفاع الذي عاد على الأجور للعمال والموظفين (خلل ملكية الأثرياء 1% أمام الأغلبية الفقيرة 99%).

 

هذه هي نتيجة البحث ذا المجهود منقطع النظير لـ"بيكتي" بعد تنقيب موسع في دوائر الضرائب والدخل الأمريكية والأوروبية خلال أكثر من قرنين، بحث شارك خلاله أربعة عشر باحثا ساعدوه في جمع بيانات كتابه الذي جعل البعض يلقبه بـ"ماركس القرن الحادي والعشرين"، إنه بداية تعرية وكشف الحقيقة أمام عيون من حاول غض الطرف عنها، نعم البداية كانت من هنا عام 2013 عندما نشر الكتاب وبيعت منه ملايين النسخ في طبعات للغات عديدة منها العربية.

 

إن نموذج الخصخصة الذي ابتدعه الغرب لم يكن هدفه "ابتلاع ثروات الشعب" عن طريق بيع أصول تملكها الحكومة بالنيابة عنه بقدر ما كان لرغبة "مثالية" في توظيف رؤوس الأموال الفائضة وتوظيفها داخل بنيان الاقتصاد لخدمة الشعب في الأساس بدلا من تركها "هائمة" على وجهها، لكن هذه المثالية انتفت تماما على أرض الواقع خصوصا مع وجود "مستنقعات قذرة" من الفسدة والمفسدين الذين أكلوا أموال الشعوب.

 

الخصخصة بحد ذاتها ليست شرا مطلقا، لكن الشر الكامن في طريقة تطبيقها وتفعليها، ومن ثم انعكاس ذلك السلبي على وتيرة فرض الرسوم والضرائب لاحقا بهدف تغطية عجز الإيرادات الناتج عن بيع الأصول "الثمنية" بثمن بخس، والأمثلة تختلف من بلد لبلد بالطبع.

 

ومن ثم فإن الأمر في فرنسا لا يتعلق بمجرد مطالب وقتية عابرة، بل يتعلق بـ"الثورة" التي بدأها "بيكتي" مع كتابه الشهير في الوقت الذي أكد فيه مبادئه برفض الحصول على أعلى وسام تمنحه الجمهورية الفرنسية مطلع عام 2015 إبان فترة رئاسة الاشتراكي "فرانسو هولاند" حيث تمتع "بيكتي" بشعبية كبيرة ومساندة من الحكومة التي تدين بأفكارها لكارل ماركس، مطالبا إياها أي الحكومة بالتركيز على دعم النمو في فرنسا وأوروبا بدلا من "تحديد" من يحصل على أوسمة فليس لها الحق في ذلك، حسب اعتقاد "بيكتي" نفسه.

 

فرنسا التي تعاني من ضعف النمو الاقتصادي وهي ثالث أكبر اقتصاديات أوروبا وتعاني من معدل بطالة كبير بفارق كبير للغاية بالمقارنة مع ألمانيا وإنجلترا وحتى أمريكا (تأرجح معدل البطالة بين 9% إلى 11% في فرنسا منذ 2009 حتى الآن)..هل هذه توابع تحمل "ضريبة" الحلم الأوروبي وأحد الآثار المباشرة لأزمة الديون السيادية التي عصفت بمنطقة اليورو وكانت اليونان بؤرتها؟

 

"ماكرون" يحلم بالهبوط بتلك النسبة المرتفعة إلى 7% لكن ليس الآن بل في 2022....ربما بدا الأمر شاقا وصعبا مع المعطيات الراهنة، خصوصا أنه في خطوة رفع الحد الأدنى للأجور أحرج بعض وزرائه بتحرك عكسي لما أعلنوه في الصباح وما صرح به هو في المساء، في الوقت الذي لا ينتمي فيه العديد من أصحاب السترات الصفراء للوظائف الحكومية، ليوضح ذلك الفجوة بين القرار والمطالب الحقيقية.

 

وبالنظر لأرقام المداخيل الفرنسية أو بالأحرى متوسطها بالنسبة للفرد نجدها ليست سيئة بل أفضل من متوسط مجموعة "الأوسيد" ، لكن هناك إشكالية "كبيرة" تتعلق بحصول أصحاب الـ20% الأعلى أجرا على مداخيل تقترب من خمسة أضعاف ما يحصل عليه الـ20% الأقل أجرا، وهنا يكمن خلل لا يمكن تجاوزه...خلل يعاني منه العالم "المجهد" من مثالب الرأسمالية.

 

ويبقى التأكيد على أن قيام الاحتجاجات على أساس ما ذكرته عن "توماس بيكتي" عن تزايد الفجوة في المداخيل وانعدام المساواة الممتد لعقود فإنه يعني ربيعا فرنسيا حقيقيا جديدا بلا شك وقيادة جديدة وبعث جديد لثورة فرنسية انطلقت من باريس على جشع الرأسمالية الفج الذي طال مشارق الأرض ومغاربها، وهذا ما يجب أن كون عليه بعد تمادي "الظلم الإجتماعي".

 

أما الوقوف فقط عند مجرد مطالب مؤقتة من رفع هزيل للأجور ستأكل الضرائب جزءا لا يستهان منه (المئة يورو سوف يكون صافيها 70 يورو أو أقل-وبالمناسبة فقد رفعت إسبانيا الحد الأدنى للرواتب، حيث بدا "سانشيز" قلقا من عدوى فرنسية) فهي فوضى لوثت بأفكار الجيل الخامس والسادس من الحروب لن تحرك الراكد من رواسب مر عليها عقود، ويظل التساؤل قائما: هل تسمح الظروف الحالية على المستوى الدولي ومن قبله الأوروبي بالجلوس ومشاهدة انتقال توابعها لباقي أوروبا ومن ثم العالم؟.

جميع الحقوق محفوظة لمصدر الخبر مصر العربية وتحت مسؤليتة ونرجوا متابعتنا بأستمرار لمعرفة أخر الأخبار علي مدار الساعة مع تحيات موقع موجز نيوز الأخباري

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى